الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
أي: إِذْعانٌ لِلذِّلَّةِ إِذْعانٌ، وإنما لم يَجُزْ أَنْ ينتصب بالرَّفث؛ لأنه مصدرٌ مقدَّرٌ بموصولٍ، ومعمولُ الصلة لا يتقدَّمُ على المَوصُولِ، فلذلك احْتَجْنَا إلى إضمار عاملٍ منْ لفظ المذكُور.الثالث: أنه متلِّق بالرَّفثِ، وذلك على رأي منْ يرى الاتساع في الظروف والمجْرُوراتِ، وقد تقدَّم تحقيقه.وأضيفت اللِّيلةُ للصيام؛ اتِّساعًا، لأنَّ شرط صحته، وهو النيةُ، موجودةً فيها، والإضافة تحدُثُ بأدنى ملابسةٍ، وإلاَّ فمِنْ حقِّ الظَّرف المضاف إلى حدثٍ أن يُوجَدَ ذلك الحدث في جزءٍ من ذلك الظَّرف، والصومُ في اللَّيل غيرُ معتَبَرٍ، ولكنَّ المُسَوِّغ لذلك ما ذكرتُ لك أو تقول: الليلة: عبارةٌ عمَّا بين غروب الشَّمس إلى طلوعها، ولمَّا كان الصَّيام من طلوع الفجر، فكان بعضُهُ واقعًا في اللِّيل فساغ ذلك.والجمهورُ على {أُحِلَّ} مبنيًّا للمفعول للعلمِ به، وهو اللَّهُ تعالى، وقرئ مبنيًا للفاعل، وفيه حينئذٍ احتمالان:أحدهما: أن يكونّ من باب الإضمار؛ لفَهْمِ المعنى، أي أَحَلَّ اللَّهُ؛ لأنَّ من المعلومِ أنه هو المُحَلِّلُ والمحرِّم.والثاني: أن يكونَ الضميرُ عائدًا على ما عاد عليه من قوله: {فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي} وهو المتكلِّم، ويكونُ ذلك التفاتًا، وكذلك في قوله: {لَكُمْ} التفاتٌ من ضمير الغَيْبة في: {فَلْيَسْتَجِيبُوا}، {وَلْيُؤْمِنُوا}، وعُدِّي {الرَّفث} ب {إِلَى}، وإنما يتعدَّى بالباء؛ لما ضُمِّن مِنْ معنى الإفضاء مِنْ قوله: {وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ} [النساء: 21] كأنه قيل: أُحِلَّ لَكُمْ الإفْضَاءُ إلى نسائِكُمْ بِالرَّفَثِ.قال الواحديّ: أراد بليلة الصِّيام ليالي الصِّيام، فأوقَعَ الواحد موقع الجماعة؛ ومنه قولُ العبَّاس بن مرداسٍ: الوافر: قال ابن الخطيب: وأقولُ: فيه وجهٌ آخرُ، وهو أنَّه ليس المراد من {لَيْلَةَ الصِّيَامِ} ليلةً واحدةً، بل المراد الإشارةُ إلى اللِّيلة المضافة إلى هذه الحقيقة.وقرأ عبد الله {الرَّفُوثُ} قال اللَّيْث وأصل الرَّفث قول الفحش، والرَّفثُ لغةً مصدرُ: رَفَثَ يَرْفِثُ بكسر الفاء وضمها، إذا تكلم بالفُحشِ، وأرْفَثَ أَتَى بالرَّفثِ؛ قال العجاج: الرجز: وقال الزَّجَّاج:- ويُروى عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما- إِنَّ الرَّفثَ كلمةٌ جامعةٌ لكلِّ ما يريدُه الرجُلُ من المَرْأَةِ، وقيل: الرَّفث: الجِمَاعُ نفسُهُ، وأنشد: الكامل: وقول الآخر: المتقارب: ولا دليل؛ لاحتمالِ إرادة مقدِّمات الجماع؛ كالمداعَبَةِ والقُبْلَة، وأنشد ابنُ عبَّاسٍ، وهو مُحْرِمٌ: الرجز: فقيل له: رَفَثْتَن فقال: إنَّما الرَّفَثُ عند النساء.فثبت أنَّ الأصل في الرَّفَثِ هو قول الفحش، ثم جعل ذلك اسمًا لما يتكلَّم به عند النِّسَاء من معاني الإفضاء، ثم جعل كنايةً عن الجماع، وعن توابعه.وقوله: {كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ} في محلِّ رفعٍ خبرٌ لأَنَّ.و{تَخْتَانُونَ} في محلِّ نصبٍ خبرٌ لكان.قال أبو البقاء: و{كُنْتُمْ} هنا لفظها لفظ الماضي، ومعناها أيضًا، والمعنى: أنَّ الاخْتِيَانَ كان يقع منهم، فتاب عليهم منه، وقيل: إنَّهُ أرَاد الاختيان في الاستقبال، وذكر كان ليحكي بها الحال؛ كما تقول: إن فعلت، كنت ظالمًا وفي هذا نظرٌ لا يخفى.و{تَخْتَانُونَ} تَفْتَعِلُونَ من الخيانة، وعينُ الخيانة واوٌ؛ لقولهم: خَانَ يَخُونُ، وفي الجمع: خَوَنَة، يقال: خَانَ يَخُونُ خَوْنًا، وخِيَانَةَ، وهي ضدُّ الأمانة، وتَخَوَّنْتُ الشَّيْءَ تَنَقَّصْتُهُ؛ قال زُهَيْر في ذلك البيت: الوافر: وخَانَ السَّيفُ إذا نَبَا عن الضَّرْبَةِ، وخَانَهُ الدَّهْرُ، إذا تغيَّر حاله إلى الشَّرِّ، وخَانَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ، إذا لَمْ يُؤَدِّ الأمانَةَ، ونَاقِضُ العَهْدِ خائِنٌ، إذا لم يف، ومنه قوله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً} [الأنفال: 58] والمدين خائنٌ؛ لأنَّه لم يف بما يليقُ بدينه؛ ومنه قوله تعالى: {لاَ تَخُونُواْ الله والرسول وتخونوا أَمَانَاتِكُمْ} [الأنفال: 27] وقال تعالى: {وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ الله مِن قَبْلُ} [الأنفال: 71] فسُمِّيت المعصية بالخيانة.وقال الزمخشريُّ: والخْتِيَانُ: من الخيانة؛ كالاكْتِسَاب من الكَسْبِ، فيه زيادةٌ وشِدَّة؛ يعني من حيث إنَّ الزيادة في اللفظ تُنْبِئ عن زيادةٍ في المعنى، كما قدَمَهُ في قوله تعالى: {الرحمن الرَّحِيمِ} وقيل هنا: تختانُونَ أَنْفُسَكُمْ، أي: تتعهَّدُونها بإتيان النِّسَاء، وهذا يكون بمعنى التَّخْويل، يقال: تَخَوَّنَهُ وتَخَوَّلَهُ بالنون واللامِ، بمعنى تَعَهَّدَهُ، إلا أنَّ النون بدلٌ من اللاَّم؛ لأنه باللام أِهر.و{عَلِمَ} إن كانت المتعدية لواحدٍ، تَكُونُ بمعنى عَرَفَ، فتكونُ أَنَّ وما في حيِّزها سادَّةً مَسَدَّ مفعولٍ واحدٍ، وإن كطانت المتعدية لاثنين، كانت سادةً مَسَدَّ المفعولين على رأي سيبويه رحمه الله ومَسَدَّ أحدهما، والآخر محذوفٌ على مذهب الأخفش.وقوله: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ} لا محلَّ له من الإعراب؛ لأنه بيانٌ للإحلال، فهو استئنافٌ وتفسيرٌ.يعني إذا حصلت بينكم وبينهنَّ مثل هذه المخالطة والملابسة، قلَّ صبركم عنهنَّ، وضعف عليكم اجتنابهنَّح فلذلك رخَّص لكم في مباشرتهنَّ.وقدَّم قوله: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ} على {وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ}؛ تنبيهًا على ظهور احتياج الرجل للمرأة وعدم صبره عنها؛ ولأنَّه هوالبادئ بطلب ذلك، وكنى باللباس عن شِدَّةِ المخالطة؛ كقوله- هو النابغة الجَعْدِيُّ: المتقارب: وفيها أيضًا: المتقارب: قال القرطبيُّ: وشُدِّدتُ النُّون من {هُنَّ} لأنها بمنزلة الميم والواو في المذكَّر.وورد لفظ اللِّبَاسِ على أربعة أوجهٍ:الأول: بمعنى السَّكَن؛ كهذه الآية.الثاني: الخلط؛ قال تبارك وتعالى: {الذين آمَنُواْ وَلَمْ يلبسوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أولئك لَهُمُ الأمن وَهُمْ مُّهْتَدُونَ} [الأنعام: 82]، أي: لم يخلطوا.الثالث: العمل الصالح؛ قال تعالى: {وَرِيشًا وَلِبَاسُ التقوى} [الأعراف: 26]، أي: عمل التقوى.الرابع: اللِّباس بعينه؛ قال تعالى: {يا بني آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا} [الأعراف: 26].قوله: {فالآنَ بَاشِرُوهُنَّ} قد تقدَّم الكلام على الآنَ وفي وقوعه ظرفًا للأمر تأويلٌ، وذلك أنه للزمن الحاضر، والأمر مستقبلٌ أبدًا، وتأويله ما قاله أبو البقاء؛ قال: وَالآنَ: حقيقته الوقت الذي أنت فيه، وقد يقع على الماضي القريب منك، وعلى المستقبل القريب، تنزيلًا للقريب منزلة الحاضر، وهو المراد هنا، لأنَّ قوله: {فَالآنَ بَاشِرُوهِنَّ}، أي: فالوقتُ الذي كان يُحَرَّمُ عليكُمْ فيه الجماع من اللَّيلِ، وقيل: هذا كلامٌ محمولٌ على معناه، والتقدير: فالآن قد أبَحْنَا لَكُمْ مُبَاشَرَتَهُنَّ، ودَلَّ على هذا المحذوف لفظ الأمر، فالآن على حَقِيقَتِهِ.وسمِّي الوِقَاعُ مباشرةً، لتلاصق البَشَرَتَيْنِ فيه:
|